المقاربة بالكفايات وتخطيط أنشطة التعلم
المرجع: "المقاربة بالكفايات- بناء المناهج وتخطيط التعلمات"
ذ. عبدالرحمان التومي
أولا- تعريف الكفاية
* تعريف بيرونو Philippe PERRENOUD
يعرف بيرونو الكفاية بأنها " القدرة على الفعل بنجاعة داخل فئة محددة من الوضعيات، قدرة تستند إلى معارف لكنها لا تنحصر فيها (...) الكفايات ليست في حد ذاتها معارف، إنها تستخدم وتدمج وتعبئ معارف إعلانية وإجرائية وشرطية " وقد أشار في مؤلف آخر إلى أن الكفاية هي "قدرة الشخص على تعبئة موارد معرفية مختلفة لمواجهة نوع محدد من الوضعيات".
* تعريف روجيرس Xavier ROEGIERS
الكفاية حسب روجرس هي " قدرة الشخص على تعبئة مجموعة مدمجة من الموارد بهدف حل وضعية- مسألة تنتمي إلى فئة من الوضعيات"
* تعريف لوبوترف Le Boterf
وقد خلص لوبوترف إلى أن الكفاية هي "معرفة التصرف" تعريف بسيط يحيلنا إلى مجموعة من العمليات المعقدة والمتداخلة. فمعرفة التصرف تتجلى في القدرة على تعبئة وإدماج وتحويل مجموعة من الموارد ( معارف، قدرات، مواقف، تمثلات...) في سياق محدد من أجل مواجهة مشكلات أو إنجاز مهام.
ثانيا- خصائص الكفاية
- لكل كفاية سياق (contexte) محدد، أي أنها لا تنمو ولا تتطور إلا في إطار سياق خاص يناسبها. ويكون هذا السياق مرتبطا بفئة من الوضعيات، تمكن من تعبئة الموارد الضرورية لتنمية وتطوير الكفاية المنشودة.
- بناء الموارد الضرورية شرط أساس لاكتساب الكفاية. وتصنف هذه الموارد، حسب العديد من الباحثين، إلى داخلية وخارجية.
- الكفاية لا تتوقف عند حدود تحقيق أهداف معرفية، بل تتجاوز ذلك إلى اكتساب القدرة على تعبئة هذه المعارف وإدماجها لمواجهة وضعيات-مسائل جديدة ومتنوعة.
- تكون الكفاية قابلة للتقويم تبعا للمعايير والظروف المحددة في نص الكفاية والتي تتيح، من جهة، التأكد من أن التلميذ قد حقق بدرجة متميزة الأهداف التعليمية المرتبطة بالكفاية، ومن جهة أخرى، أن التلميذ قادر على توظيف المعارف التي طورها في مجال تعليمه وإدماجها بفعالية في وضعيات جديدة ومعقدة.
في ضوء هذه الخصائص يمكن تعريف الكفاية كالآتي: هي القدرة على الاستخدام الناجع لمجموعة مدمجة من الموارد (معارف، مهارات، مواقف/اتجاهات ) لمواجهة فئة من الوضعيات.
رابعا- المفاهيم المرتبطة بالكفايةالموارد (Ressources)
هي أساسا المعارف والمهارات والمواقف والاتجاهات وكل الوسائل المرتبطة بالوضعية وسياقها والتي تكون ضرورية لتطوير الكفاية. وتصنف حسب العديد من الباحثين إلى داخلية وخارجية.
الإدماج (Intégration)* يشير الإدماج، حسب المجلس الأعلى للتربية بالكبيك، إلى سيرورة يطعم المتعلم من خلالها مكتسباته السابقة بتعلمات جديدة، ويعيد ،بذلك، بناء عالمه الداخلي، ويطبق على وضعيات جديدة ومحسوسة المعارف المكتسبة.
* أما روجيرس فتعامل مع الإدماج باعتباره بيداغوجيا قائمة الذات، بل ذهب إلى حد استعماله كمرادف لمصطلح "المقاربة بالكفايات الأساسية" فهو يعرف الإدماج باعتباره "عملية يتم من خلالها جعل مختلف العناصر، التي كانت منفصلة في البداية، مترابطة بهدف تشغيلها بشكل مفصلي تبعا لهدف محدد"
فالكفاية إذن، حسب ما أدرجناه حول مفهوم الإدماج، لا تتوقف عند حدود تحقيق أهداف معرفية، بل تتجاوز ذلك إلى اكتساب القدرة على إدماج هذه المعارف وتحويلها في الوقت المناسب وفي وضعيات محددة إلى انجاز ملائم.
الوضعية/ عائلة"أو فئة" الوضعياتالوضعية "Situation" مشكلة حقيقية يطالب المتعلم بحلها. وقد صنف الباحثون الوضعيات المرتبطة بالكفاية إلى ثلاثة أصناف:
- وضعية التعلم أو وضعية الاستكشاف: وهي وضعية تكون في بداية الدرس ويكون الهدف منها اكتساب التعلمات الجديدة المرتبطة بالكفاية.
- وضعية الإدماج: وهي وضعية تستهدف تعبئة المكتسبات وإدماجها من أجل مواجهة مشكل أو انجاز مهمة.
- وضعية التقويم: وهي وضعية تأتي إثر وضعية الإدماج وتقيس مدى استيعاب المتعلم للمكتسبات الجديدة ومدى قدرته على إدماجها لحل وضعيات جديدة ومعقدة.
وفي علاقة بمفهوم الوضعية، نتحدث عن عائلة الوضعيات "famille de situations"، فكل كفاية ترتبط بفئة (عائلة) من الوضعيات. وهي مجموعة من الوضعيات المتكافئة (متساوية في الصعوبة) والتي تتيح ممارسة الكفاية وتأكيد امتلاكها. ويمكن استغلال هذه الوضعيات في نهاية التعلم ( للإدماج)، أو في مرحلة التقويم.
مثال:
إنتاج نص سردي قصير(من 5 إلى 7 جمل متناسقة) مرتبط بأنشطة اجتماعية مختلفة.
تقتضي الوضعية في هذه الكفاية أن ينتج التلميذ نصا سرديا قصيرا مرتبطا بأنشطة اجتماعية مختلفة. لذلك فإن عائلة الوضعيات المشكلة لهذه الكفاية هي مجموع النصوص السردية التي يكون التلميذ قادرا على إنتاجها، والتي تكون مرتبطة بالأنشطة الاجتماعية المختلفة كالأنشطة المدرسية والرحلات والحفلات...، شريطة أن تلتزم بالمعايير المحددة: يكون النص قصيرا لا يقل عن خمس ولا يتجاوز سبع جمل، وتكون هذه الجمل متناسقة.
المراحل الأساسية لاكتساب الكفاية
يتم اكتساب كفاية ما عبر ثلاث فترات:
- فترة بناء التعلمات الأساسية المرتبطة بالكفاية.
- فترة الإدماج التعلمات.
- فترة التقويم والدعم.
تخطيط التعلمات وفق المقاربة بالكفايات
1.2- فترة بناء التعلمات المرتبطة بالكفاية
يتم خلالها بناء المعارف والمهارات والمواقف والاتجاهات المرتبطة بالكفاية المنشودة. ويمكن تنظيم مختلف الممارسات المبرمجة خلال هذه الفترة في الأنشطة الآتية:
* أنشطة الاكتساب Activités d'acquisition
هي مرحلة معرفية تستند إلى وضعية ديداكتيكية أو وضعية تعلم يتعرف المتعلم من خلالها على المفاهيم والمعارف الأساسية لتنمية الكفاية وتتمثل أنشطة هذه المرحلة فيما يلي:
- تقديم المدرس للوضعية التعلمية مصحوبة بالتعليمات الضرورية.
- ملاحظة التلاميذ للوضعية ومحاولة تملكها.
- البحث عن المعطيات ومعالجتها وتحليلها وتركيبها لاكتساب المفاهيم والمعارف الجديدة.
- مأسسة هذه المعارف أي استنتاج القواعد التي تتحكم في استعمالها.
وتنتهي أنشطة الاكتساب بالفهم كأساس لمرحلة التدريب.
* أنشطة التدريب Activités d’entraînement
هي أنشطة يشرف المدرس على إنجازها وتصحيحها وترتكز على ما اكتسبه المتعلم خلال مرحلة الاكتساب وتكون هذه الأنشطة عبارة عن تمارين تطبيقية مباشرة تعتمد على وضعيات لإعادة صياغة المعارف المكتسبة وتثبيتها.
مثال:
المكون: التراكيب
المستوى: السادس من التعليم الابتدائي
موضوع التعلم: النواسخ الحرفية
التعلمات السابقة: النواسخ الفعلية.
1- ضع خطا تحت الناسخ الحرفي في الجمل التالية:
- لعل أخي يسافر غدا.
- أصبح الجو صحوا.
2- أدخل ناسخا حرفيا مناسبا على الجمل الاسمية التالية:
- القط نمر
- النجار يشتغل طيلة النهار.
* أنشطة الإدماج الجزئي للتعلمات "Intégration intermédiaire"
تتوج هذه الأنشطة ما سبقها من أنشطة الاكتساب والتدريب وتتيح للمتعلم ربط تعلماته السابقة بالجديدة وتمكنه من تعبئة جزء من موارده المرتبطة بالكفاية واستثمارها في وضعيات-مسائل تتدرج من حيث الصعوبة والمعنى. ويمكن لهذه الأنشطة أن تكون كذلك مناسبة لتعلم الإدماج وبنائه تدريجيا.
مثال لوضعية إدماج جزئي مرتبط بالمثال السابق:
خرجت رفقة أصدقائك للتنزه في منطقة سياحية غير بعيدة عن مدينتك أو قريتك. ركب نصا بسيطا من 4 جمل تصف فيه كل ما أثار انتباهك من مناظر طبيعية، موظفا على الأقل ناسخا فعليا وناسخا حرفيا.
ملحوظة
يمكن للأنشطة المرتبطة ببناء التعلمات أن تستغرق حصة واحدة أو عدة حصص تبعا لخصوصية كل مادة دراسية.
2.2- فترة الإدماج المرتبطة بالكفاية
بناء الكفاية مرتبط بشكل وثيق بالقدرة على الفعل، وإنجاز مهام تتجاوز التطبيق الآلي الميكانيكي للمعارف المكتسبة. فمرحلة الإدماج هي مرحلة تحدد قيمة وفعالية ما اكتسبه المتعلم من منطلق أن التعلم الفعال هو الذي يتيح للمتعلم إمكانية توظيفه لمواجهة وضعيات جديدة ومعقدة.
وتتميز أنشطة الإدماج باستقلالية المتعلم، أي أن عملية المراقبة تنقص بالتدريج. فوظيفة المدرس خلال هذه المرحلة تقتصر على توجيه المتعلم وتشجيعه على بلوغ مستويات أعلى من الإنجاز وذلك من خلال الممارسة الواسعة والممتدة إلى وضعيات جديدة تنتمي إلى نفس عائلة الوضعيات.
وعلى هذا الأساس، يمكن، إضافة لأنشطة الإدماج الجزئي المبرمجة في إطاربناء التعلمات، تصور أنشطة للإدماج النهائي تتيح للمتعلم تعبئة كل الموارد المكتسبة في إطار الوحدة التعليمية والمرتبطة بالكفاية، لمواجهة وضعيات جديدة ومعقدة.
مثال:
المكون: التعبير الكتابي
المستوى: السادس ابتدائي
الكفاية المعنية: يكون التلميذ قادرا على إنتاج نص حواري بسيط (من 5 إلى 7 جمل) مرتبط بالصحة والتغذية.
وضعية الإدماج:
أصابك زكام شديد لم تتمكن بسببه من الذهاب إلى المدرسة. وعند زيارتك للطبيب دار بينكما حوار ساعد الطبيب على تشخيص حالتك المرضية بشكل جيد. اكتب نص الحوار الذي دار بينكما في بضع جمل ( من 5 إلى 7 جمل).
3.2- فترة التقويم Evaluation
تتوج هذه الأنشطة ما سبقها من أنشطة الاكتساب والإدماج وتتيح للمتعلم تعبئة مكتسباته قصد معالجة وضعيات جديدة داخل القسم وخارجه لتقويم مدى تمكن المتعلم من تحقيق الكفاية المستهدفة. وعلى هذا الأساس، تكون وضعيات التقويم مشابهة للوضعيات المقدمة خلال أنشطة الإدماج النهائي.
----------------------------------------------------------------------------------
بـِسْـم اللـّـه الـرَحـمّـنْ الـرَحـيّـم
و صلى الله على سيدنا محمد خير خلق الله و على آله و صحبه أجمعين إلى يوم الدين
إذا كانت بيداغوجية الأهداف تجزيئية وهرمية ولا سياقية، فإن بيداغوجية الكفايات سياقية وشاملة و مندمجة ووظيفية. وتعد الوضعيات من أهم العناصر التي ترتكز عليها الكفاية، ومن أهم محكاتها الجوهرية لتقويمها إنجازا وأداء ومؤشرا. ولايمكن تصور الكفايات بدون الوضعيات تماما؛ لأنها هي التي تجعل من الكفاية وظيفة لا سلوكا، وهي التي تحكم على أهلية القدرات و مدى ملاءمتها للواقع وصلاحيتها للتكيف مع الموضوع أو فشلها في إيجاد الحلول للمشاكل المعيقة.
1/ تعريف الكفـــــــــاية:
قبل تعريف الوضعية، علينا أن نعرف الكفاية والمقصود بها لكي تتضح دلالات مفهومنا الديداكتيكي الذي نريد الخوض فيه، وهكذا تعرف الكفاية عند جيلي بأنها ” نظام من المعارف المفاهيمية( الذهنية) والمهارية ( العملية) التي تنتظم في خطاطات إجرائية، تمكن في إطار فئة من الوضعيات، من التعرف على المهمة – الإشكالية وحلها بنشاط وفعالية”(1). وتعرف الكفاية كذلك على أنها ” هدف- مرمى متمركزة حول البلورة الذاتية لقدرة التلميذ على الحل الجيد للمشاكل المرتبطة بمجموعة من الوضعيات، باعتماد معارف مفاهيمية ومنهجية مندمجة وملائمة”(2). ويعرفها فيليب پيرنو بأنها” القدرة على تعبئة مجموعة من الموارد المعرفية( معارف، قدرات، معلومات، الخ) بغية مواجهة جملة من الوضعيات بشكل ملائم وفعال”(3). ويرى د. محمد الدريج أن هذه الكفايات” ينظر إليها على أنها إجابات عن وضعيات- مشاكل تتألف منها المواد الدراسية”(4). وفي رأيي، أن الكفاية هي مجموعة من القدرات والمهارات والمعارف يتسلح بها التلميذ لمواجهة مجموعة من الوضعيات والعوائق والمشاكل التي تستوجب إيجاد الحلول الناجعة لها بشكل ملائم وفعال.
ويظهر لنا من مجموعة من التعاريف للكفاية أنها تنبني على عناصر أساسية يمكن حصرها في:
1- القدرات والمهارات؛
2- الإنجاز أو الأداء؛
3- الوضعية أو المشكل؛
4- حل الوضعية بشكل فعال وصائب؛
5- تقويم الكفاية بطريقة موضوعية.
وهكذا، يبدو لنا أن الكفاية مرتبطة أشد الارتباط بالوضعية/ الإشكال، أي أن الكفاية قائمة على إنجاز المهمات الصعبة وإيجاد الحلول المناسبة للمشاكل المطروحة في الواقع الموضوعي. إذا، فالعلاقة الموجودة بين الكفاية والوضعية هي علاقة استلزام اختباري وتقييمي وديداكتيكي.
2/ الوضــعية والــسياق: (Situation et contexte)
إذا تصفحنا معاجم اللغة العربية كلسان العرب والمعجم الوسيط فإننا لا نجد كلمة الوضعية بهذه الصيغة؛ بل نجد كلمة وضع موضعا ومواضع الدالة على الإثبات في المكان، أي أن الوضعية بمثابة إطار مكاني للذات والشيء.(5) ولكن في اللغات الأجنبية نجد حضورا لهذا المفهوم بشكل واضح ومحدد. ففي معجم أكسفورد الإنجليزي نجد أن الوضعية تعني ” معظم الظروف والأشياء التي تقع في وقت خاص وفي مكان خاص”(6)، وتقترن الوضعية بدلالة أخرى وهي السياق الذي هو” عبارة عن وضعية يقع فيها شيء، وتساعدك بالتالي على فهمه”(7). أما معجم روبير فيرى أن الوضعية هي ” أن تكون في مكان أو حالة حيث يوجه الشيء أو يتموقع” (8) أي أن الوضعية هي التموقع المكاني أو الحالي في مكان أو وضع ما، بينما يحدد السياق في هذا المعجم على أنه ” مجموعة من الظروف التي تحيط بالحدث”( 9).
ويمكن أن نفهم من كل هذا أن الوضعية هي مجموعة من الظروف المكانية والزمنية والحالية التي تحيط بالحدث وتحدد سياقه. وقد تتداخل الوضعية مع السياق والظروف والعوائق والمواقف والمشكلات والمشاكل والصعوبات والاختبارات والمحكات والحالة والواقع والإطار والإشكالية…الخ.
وتعرف الوضعية في مجال التربية والديداكتيك بأنها” وضعية ملموسة تصف، في الوقت نفسه، الإطار الأكثر واقعية، والمهمة التي يواجه التلميذ من أجل تشغيل المعارف المفاهيمية والمنهجية الضرورية، لبلورة الكفاية والبرهنة عليها”(10). أي أن الوضعية واقعية ملموسة يواجهها التلميذ بقدراته ومهاراته وكفاءاته عن طريق حلها. والوضعيات ليست سوى التقاء عدد من العوائق والمشاكل في إطار شروط وظروف معينة. إن الوضعية- حسب د. محمد الدريج- ” تطرح إشكالا عندما تجعل الفرد أمام مهمة عليه أن ينجزها، مهمة لا يتحكم في كل مكوناتها وخطواتها، وهكذا يطرح التعلم كمهمة تشكل تحديا معرفيا للمتعلم، بحيث يشكل مجموع القدرات والمعارف الضرورية لمواجهة الوضعية وحل الإشكال، ما يعرف بالكفاية”(11). ونفهم من هذا، أن الوضعية هي مجموعة من المشاكل والعوائق والظروف التي تستوجب إيجاد حلول لها من قبل المتعلم للحكم على مدى كفاءته وأهليته التعليمية / التعلمية والمهنية. وتعتبر المواد الدراسية مجموعة من المشاكل والوضعيات، ولاسيما أنه ينبغي أن نعد التلميذ للحياة والواقع لمواجهة التحديات والصعوبات التي يفرضها عالمنا اليوم، وأن يتعلم الحياة عن طريق الحياة؛ وألا يبقى التلميذ رهين النظريات المجردة البعيدة عن الواقع الموضوعي أو حبيس الفصول الدراسية والأقسام المغلقة والمسيجة بالمثاليات والمعلومات التي تجاوزها الواقع أو التي أصبحت غير مفيدة للإنسان. أي أن فلسفة الوضعيات مبنية على أسس البراجماتية كالمنفعة والإنتاجية والمردودية والفعالية والفائدة المرجوة من المنتوج، والإبداعية، وهو تصور الفلسفة الذرائعية لدى جيمس جويس وجون ديوي وبرغسون والثقافة الأنجلو سكسونية بصفة عامة.
3/ ســــياق بيداغوجية الوضـــعيات:
لايمكن فهم الوضعيات إلا إذا وضعناها في سياقها الاجتماعي والتاريخي، وهو نفس سياق بيداغوجية الكفايات، إذ استلزم التطور العلمي والتكنولوجي المعاصر منذ منتصف القرن العشرين توفير أطر مدربة أحسن تدريب لتشغيل الآلة بكل أنماطها؛ مما دفع بالمجتمع الغربي ليعيد النظر في المدرسة وطبيعتها ووظيفتها وذلك بربطها بالواقع والحياة وسوق الشغل لمحاربة البطالة والفشل المدرسي واللامساواة الاجتماعية. ويعني هذا ربط المدرسة بالمقاولة والحياة المهنية والعولمة والقدرة التنافسية المحمومة. أي على المدرسة أن تنفتح على الواقع والمجتمع لتغييرهما وإمدادهما بالأطر المدربة والكفئة والمتميزة، فلا قيمة للمعارف والمحتويات الدراسية إذا لم تقترن بما هو وظيفي ومهني وتقني وحرفي. إذا، كل هذه العوامل هي التي كانت وراء عقلنة المناهج التربوية وجعلها فعالة ناجعة ذات مردودية تأطيرية وإبداعية.
وقد حاولت دول العالم الثالث ، بما فيها الدول العربية ( تونس والمغرب وسلطنة عمان مثلا)، أن تتمثل هذا النموذج التربوي القائم على بيداغوجية الكفايات والوضعيات لمسايرة المستجدات العالمية ومتطلبات السوق اللبرالية وتفادي البطالة والثورات الاجتماعية وظاهرة الهجرة بكل أنواعها، وحاولت تبيئتها في مدارسها لخلق الجودة والعقلانية وتحصيل المردودية الفعالة. وبذلك أصبحت التربية تابعة للسياسة الاقتصادية للدولة وظروفها الاجتماعية والتمويلية. ويقول نيكو هيرت في هذا الصدد:”ما هو إذا عالم اليوم هذا ؟ يتميز محيطنا الاقتصادي بعنصرين اثنين : أولا تقلب بالغ وثنائية اجتماعية قوية. ينجم عن احتدام الصراعات التنافسية وإعادة الهيكلة وإغلاق المصانع وترحيل وحدات الإنتاج، واللجوء المتسارع إلى اختراعات تكنولوجية زائلة أكثر فأكثر( سواء في مجال الإنتاج أو في مجال الاستهلاك). وفي هذا السياق تتمثل إحدى أهم مساعي أرباب العمل في المرونة: أي مرونة سوق العمل ومرونة العامل المهنية والاجتماعية ومرونة أنظمة التربية والتكوين وقابلية تكيف المستهلك.
مازالت سوق العمل حاليا منظمة بشكل قوي على أسس المؤهلات، أي على أساس الشواهد. وتمثل الشهادة جملة معارف ومهارات معترف بها، تخضع لمفاوضات جماعية وتخول حقوقا بشأن الأجور وشروط العمل أو الحماية الاجتماعية. ولإتاحة دوران أكثر ليونة لليد العاملة، بات أرباب العمل يسعون لتدمير هذا الثنائي المتصلب: مؤهلات- شواهد، واستبداله بالثنائي كفايات- شواهد مبنية على وحدات تكوين( مصوغات أو مجزوءات )”(12.Modulaire)
4/ أنــواع الوضعـــــيات
إن الوضعيات مجموعة من الأطر والمؤشرات والظروف السياقية التي تحدد المشكلات والعوائق والصعوبات التي تواجه التلميذ المتسلح بمجموعة من المعارف والقدرات والكفايات الوظيفية قصد حلها والحصول على إجابات وافية وصحيحة للبرهنة على صدق هذه الكفايات والقدرات المكتسبة عبر مجموعة من التعلمات المدرسية المنجزة مسبقا. ويمكن أن نضع التلميذ أمام عدة وضعيات تبرز طبيعة الكفاية لدى التلميذ، وهذه هي التي ستحدد لنا أنماط الوضعيات – المشاكل على مستوى مؤشرات الأطر السياقية:
1- الوضعية المكانية:
- أن يكون التلميذ قادرا على كتابة الإنشاء داخل القسم؛
– أن يكون قادرا على إجراء التجربة داخل المختبر.
2- الوضعية الزمنية:
- أن يكون التلميذ قادرا على كتابة قصيدة شعرية في ساعتين؛
– أن يقطع التلميذ مسافة 40 كلم في ساعتين.
3- الوضعية الحالية:
- أن يمثل التلميذ هذا الدور المسرحي بطريقة كوميدية؛
- أن يسبح التلميذ على ظهره في مسبح المدرسة.
4- الوضعية الأداتية أو الوسائلية:
- أن يكتب التلميذ نصا من ألف كلمة بواسطة الكمبيوتر؛
- أن يقفز التلميذ بواسطة الزانة.
5- الوضعية الحدثية أو المهارية:
- أن يكون التلميذ قادرا على إنجاز تقطيع هذا البيت الشعري وتحديد بحره؛
- أن يكون التلميذ قادرا على إصلاح الآلة الموجودة فوق الطاولة.
6- الوضعية التواصلية:
- أن يكون قادرا على استخدام أسلوب التحذير، وهو يتكلم بالإسبانية مع شخص يدخن سيجارة في الحافلة؛
- أن يكون قادرا على التواصل بالإنجليزية، وهو يكتب رسالة إلى صديقة البريطاني في لندن.
و يمكن أن نحدد أنواعا أخرى من الوضعيات الموقفية قياسا على ما ذهب إيريبان IRIBANE إليه في تصنيفه للكفايات:
1- وضعيات التقليد والمحاكاة:
ترتكز على مهمات التقليد وإعادة المعارف والمهارات المكتسبة عن طريق التطبيق والمماثلة والحفظ والآلية والإعادة ( وضعيات الاجترار).
2- وضعيات التحويل:
تنطلق من وضعية معينة من العمل لتطبيقها على وضعيات غير متوقعة لكن قريبة، وذلك بالتفكير بالمثل والاستفادة من الوضعيات السابقة لحل الصعوبات عن طريق تحويلها لإيجاد الحلول المناسبة ( وضعيات الاستفادة والامتصاص)
3- وضعيات التجديد:
تنطلق من مواجهة مشاكل وصعوبات وعراقيل جديدة وتقديم حلول مناسبة لها. ( وضعيات الحوار و الإبداع).
ويمكن تصنيف الوضعيات من الناحية التقويمية المعيارية على النحو التالي:
1- وضعية أولية:
يتم طرح مجموعة من الوضعيات الإشكالية للتلميذ أثناء بداية الدرس أو قبل الشروع فيه إما في شكل مراجعة وإما في شكل إثارة قدراته الذاتية والمهارية.
2- وضعية وسيطية:
يقوم التلميذ أثناء التعلم والتكوين وفي وسط دراسة المجزوءة للتأكد من قدرات التلميذ التعلمية والمفاهيمية والمهارية.
3- وضعية نهائية:
يواجهها التلميذ في نهاية الدرس، وهي التي تحكم على التلميذ إن كان كفئا أم لا؟ وهل تحققت عنده الكفاية أم لا؟ وهل أصبح قادرا على مواجهة الصعوبات والوضعيات الإشكالية والمواقف الواقعية؟ وهل تحقق الهدف المبتغى والغاية المنشودة من التكوين والتعلم الذاتي أم لا؟
وهذه الوضعيات تتناسب تماثليا مع التقويم الأولي والتكويني والإجمالي في إطار العملية التعليمية – التعلمية.
ومن حيث المحتوى، فهناك وضعيات معرفية ( ثقافية)، ووضعيات منهجية، ووضعيات تواصلية، ووضعيات وجدانية أخلاقية، ووضعيات حركية، ووضعيات مهنية تقنية…
5/ خصائص الوضــعية- المشكل
حد د (ASTOLFI) مجموعة من الخصائص التي يجب أن تتميز بها وضعية المشكل الجيدة، نذكر منها:
1- ينبغي أن تحدد الوضعية عائقا ينبغي حله؛
2- أن تكون الوضعية حقيقية ملموسة وواقعية تفرض على التلميذ صياغة فرضيات وتخمينات؛
3- تشبه هذه الوضعية لغزا حقيقيا ينبغي حله و مواجهته بالقدرات المكتسبة؛
4- تكون ذات خصوصية تحدد مجال فعل الكفاية؛
5- توصف ضمن لغة واضحة ومفهومة من قبل التلميذ؛
6- تتطلب الوضعية معارف وقدرات ومهارات تساهم في تكوين الكفاية في شتى مستوياتها المعرفية والحركية والوجدانية؛
7- تتشابه مع وضعية حقيقية يمكن أن تواجه الأفراد خارج المدرسة، ضمن الحياة المهنية أو الحياة الخاصة؛
8- يعد للتلميذ مشكلا حقيقيا لا يكون فيه الحل بديهيا؛
9- تشكل الوضعية فرصة يثري فيها التلميذ خبراته؛
10- تحدد الوضعية وفق المستوى المعرفي للتلميذ.
6/ أهمية الوضعيات- المشـــاكل
للوضعيات أهمية كبيرة في اختبار المناهج الدراسية وتقييم المدرسة والتمييز بين التقليدية والجديدة منها، ومعرفة المدرسة المنغلقة من الوظيفية. إن الوضعيات بيداغوجية الكفاءة والمردودية وإبراز القدرات والمهارات والمواهب المضمرة والظاهرة. إنها تربية المشاكل والحلول والتعلم الذاتي وتجاوز الطرائق التقليدية القائمة على التلقين والحفظ وتقديم المعرفة والمحتويات بواسطة المدرس إلى التلميذ السلبي. كما أن تربية الوضعيات هي التي تفرز الكفاءات والقدرات العقلية وتربط المدرسة بالواقع وسوق الشغل ليس من خلال الشواهد – المؤهلات بل من خلال الشواهد – الكفايات. بيد أن هذه الوضعيات والكفايات ليست عصا سحرية لمعالجة كل مشاكل وزارات التربية والتعليم كاكتظاظ التلاميذ في الفصول الدراسية، وتكوين المدرسين، وإيجاد الحلول المناسبة للوضعية الاجتماعية للمدرسين، وتوفير الوسائل والإمكانيات المادية والبشرية، بل إن طريقة التعليم بالكفايات والوضعيات طريقة بيداغوجية لعقلنة العملية الديداكتيكية وتفعيلها بطريقة علمية موضوعية على أسس معيارية وظيفية وربط المدرسة بالحياة والشغل وسوق العمل وحاجيات أرباب العمل والمنافسة ومقتضيات العولمة، وكل هذا يتطلب تغيير عقلية الإدارة والمدرس والتلميذ والآباء والمجتمع كله. ولا ينبغي أن تبقى الوضعيات والكفايات في إطارها الشكلي أو بمثابة موضة عابرة أو حبيسة مقدمات الكتب المدرسية وتوجيهات البرامج الدراسية وفلسفتها البعيدة كغايات ومواصفات مثالية نظرية بدون تطبيق أو ممارسة فعلية وميدانية. وهنا أستحضر قولة معبرة بكل وضوح لما نريد أن نقصده لمبلور الكفايات فيليب پيرنو:”إذا ظلت المقاربة بالكفايات على مستوى الخطاب لهثا وراء الموضة، فإنها ستغير النصوص لتسقط في النسيان… [...] أما إذا كانت تطمح إلى تغيير الممارسات، فستصبح إصلاحا من “النمط الثالث” لا يستغني عن مساءلة معنى المدرسة وغايتها”(15)."
7/ بطاقة تقنية لبيداغوجيا الوضعيات والكفايات:
ليكون موضوعنا ميدانيا وإجرائيا ارتأينا أن نقدم جذاذة وصفية لطريقة التدريس بالكفايات والوضعيات بدلا من الوصف النظري المجرد قصد تفعيل العملية الديداكتيكية وعقلنتها على أسس الوعي والتطبيق والممارسة والتقييم المعياري. وإليكم هذه البطاقة التقنية:
المجـــــــــــزوءة: العــــــربية
عنوان المجزوءة: المناهج النقدية( المنهج النفسي)
الفئة المستهدفة: باك أدبي2
المدة الزمنية: ساعة واحدة
الغايات والمواصفات: أن يكون التلميذ مواطنا صالحا ومثقفا يتذوق الأدب ويقدر على نقده ويساهم في إثراء الساحة الأدبية والنقدية المغربية أو العربية أو العالمية.
الهدف الختامي: أن يكون التلميذ متمكنا من المنهج النفسي وقادرا على تطبيقه على قصيدة ابن الرومي في رثائه لابنه الأوسط على ضوء مفاهيم سيغموند فرويد.
الوسائل الديداكتيكية: الوثائق النصية( الكتاب المدرسي- ديوان أبي نواس- كتب فرويد في علم النفس- مراجع ومصادر أخرى….)
كيف ظهر الاتجاه الداعي إلى بناء الكفايات؟
هناك إجماع لدى الباحثين أن التصور الداعي إلى تبني تدريس الكفايات جاء كحركة تصحيحية لتجاوز الثغرات التي رافقت موجة التدريس بالأهـداف، وبالتالي يمكن اعتبارها امتدادا وتطويرا للتدريس الهادف.
بداية التساؤل حول نجاعة بيداغوجية الأهداف كانت مابين سنوات 1975 و1980 وقد برز في هذا الصدد العمل المتميز الذي قام به مركز الدراسات البيداغوجية للتجريب والإرشاد بفرنسا( Centre d'études pédagogiques pour l'expérimentation et le conseil:CEPEC ) ابتداء من سنة 1977. ولم يكن القصد هو التخلي نهائيا عن بيداغوجية الأهداف والرجوع إلى ممارسة بيداغوجية تقليدية تفتقد العقلانية والتخطيط، بل كان القصد هو تصحيح وتجاوز الطابع السلوكي التجزيئي لبيداغوجية الأهداف.
ويمكن تلخيص أهم المؤاخذات على التدريس الهادف في النقط التالية:
§ ينتج عن الإفراط في الصياغة السلوكية أهداف ترتبط بإنجازات محدودة وجزئية وقصيرة المدى ، مما قد يضعف ارتباطها بالمرامي والأهداف الكبرى التي سطرتها المنظومة التربوية.
§ الممارسة السلوكية تبالغ في إعطاء أهمية للجوانب المعرفية على حساب الجوانب السوسيو- وجدانية المركبة.
§ كثرة الأهداف الإجرائية قد تفقد العمل التربوي معناه وتؤدي إلى نوع من النفور والملل لدى المدرس والتلميذ على السواء، والسقوط في أعمال روتينية شكلية مكررة..
§ المنطق السلوكي بسعيه إلى الوصول إلى أعلى مستوى من الأجرأة لضبط عملية التقويم والقياس قد يقلل من فعالية التكوين الحقيقي للتلاميذ واكتسابهم لمهارات وقدرات عقلية عليا بسبب التركيز المفرط على تعلمات جزئية محدودة تحت ضغط هاجس ضبط القياس والتقويم.
أمام هذه الثغرات التي تم رصدها من طرف باحثين وخبراء في مجال التعليم والتعلم بدأ السعي إلى تصحيح وإدخال تعديلات تؤدي إلى الاهتمام بالرفع من مستوى جودة التعليم وتمكين التلميذ من اكتساب مهارات وقدرات تفيده في حياته العملية عوض الاهتمام بتعلمات الغاية منها اجتياز اختبارات التقويم ثم نسيانها أو عدم القدرة على توظيفها في الحياة العملية مما يجعلنا أمام حاملي شهادات عليا لكن دون كفاءات عملية حقيقية. وقد ساعد التطور الاقتصادي وازدياد حدة التنافس في عصر العولمة من تزايد الحاجة إلى ربط التعليم بالحاجيات الحقيقية للمجتمع لاكتساب أكبر قدرة من الكفايات الضرورية لمجابهة هذه التحديات.
وليس غريبا أن نرى مفهوم الكفاية يظهر ويتبلور في البداية في مجال البحوث المرتبط بعلم الشغل:Ergonomie، كما بدأت تطبيقاتها الناجحة تبرز بالخصوص في مراكز التكوين المهني والتكنولوجي وتدبير المقاولات...
2-تعريف الكفايـة:
إنها أكثر من مجرد مصطلح جديد، إنها مقاربة جـديدة.
فالأمر لا يتعلق بخاصية مرغوب توفرهـا عند التلميـذ، أو مستوى من مستويات الأهـداف الصنافية التي تعودنا الاشتغال بها. إنها مقاربة بيداغوجية جديدة تُغير العـديد من جـوانب تصـوراتنا وممارساتنا التربوية. وقد أشار روجرز Rogiers إلى ثلاثة عناصر(أو تحديات) تبـرر ظهـور هذه المقـاربـة الجديـدة :
- غـزارة المعلومات وتكاثرها السـريع مما يجعل الطرق البيداغـوجية المبنية على نقل المعارف عقيمـة وجامـدة ومُتَجـاوزة.
- الحاجـة الملحـة لتقـديم تعلمـات ذات معنى للتلاميـذ، وتجلب اهتمامهم ولها ارتباط وثيق بالحاجيات اليومية والمعاشـة.
- مـحاربة الفشل الدراسي الذي يقلل من فعالية ومردودية الـمؤسسة التربويـة.
تعريف لوجنـدر Legendre:
" مجمـوع المعارف والمهـارات التي تمكن من إنجاز مهمة أو عدة مهام بشكل ملائم."
- تعريف بريان Brien:
" هي تلك القدرة لدى الشخص على إنجاز مهمـة معينة. إنها مجمـوع المـعارف والمهارات والمواقف، التي يتم استثارتها وتعبئتها أثناء القيام بإنجاز مهمة محددة."
يقول Le Boterf في كتابه = De la compétence..Paris, 1994,P: 43 :
" الكفاية ليست حالة أو معرفة مكتسبة، فاكتساب معارف أو قدرات (مهارات) لا يعني أن الفرد أصبح ذو كفاية، بحيث يمكن للمرء أن يكون على دراية واسعة بمبادئ المحاسبة والتدبير ولكن قد لا يعرف توظيف هذه المعلومات في الوقت المناسب وفي المكان المناسب.. (savoir mobiliser ) الكفاية تكتسب أثناء ممارسة نشاط ما يتم فيه تجنيد المعارف والقدرات والتوظيف المناسب لها، ولا يمكن اكتسابها من فراغ أو من خلال التلقي السلبي.."
ويقترح الباحث Philippe Perrenoud في دراسة له منشورة على الانترنيت، تعريفا وأمثلة توضيحية:
(http://www.unige.ch/fapse/SSE/teachers/perrenoud/php)
"الكفاية هي تجنيد مجموعة من الإمكانيات المعرفية ( معارف، قدرات، معلومات..) لمواجهة فئة من الوضعيات/المشكلات بدقة وفعالية.
أمثلة:
- التمكن من تحديد الاتجاه والمسار داخل مدينة مجهولة.
هذه الكفاية تتطلب تجنيد قدرات مختلفة: القدرة على قراءة تصميم مدينة، القدرة على تحديد موقع، القدرة على طلب معلومات وإرشادات، وتجند كذلك معارف مثل: مفهوم المقياس، عناصر الطبوغرافيا، معرفة الإحداثيات الجغرافية..
- التمكن من معالجة طفل مريض وفي حالة مستعجلة.
هذه الكفاية تتطلب تجنيد قدرات: ملاحظة الأعراض – أخذ الحرارة – تحديد الدواء المناسب، وتتطلب معارف: معرفة بمختلف أنواع الأمراض – مبادئ الإسعافات الأولية – معرفة الأدوية ومضاعفاتها...
- تمكن الفرد من ممارسة حق الانتخاب بشكل لا يضر بمصلحته.
هذه الكفاية تتطلب تجنيد قدرات: طلب المعلومات –تعبئة بطاقة التصويت، وتتطلب كذلك تجنيد معارف مرتبطة بالمؤسسات السياسية والقوانين الانتخابية وبرامج الأحزاب... "
نستنتج إذن أن التلميـذ يصبح متمكنـا من كفاية معينة حينما يتمكن من توظيف ما اكتسبه من معارف(مفاهيم ومعطيات) ومهـارات، بغرض إنجاز مهام محددة وحل مشكلة ضمن وضعية بيداغوجية إشكالية.
3- خصـائص الكـفايـة :
§ خاصية الإدماج Intégration: مقابل خاصية تجزيء المعارف والمهارات التي تميز بيداغـوجية الأهداف، تسعى هده المقاربة إلى إدماج المعارف والمهارات والمواقف لتشكل واقعا منسجما ومندمجا: فهناك الجانب السوسيو وجداني socio-affectif وهو الذي يجعل التلميذ متحفزا للقيام بمهمة معينة والانغماس فيها وجدانيا باعتبارها مشروعه الذاتي وانعكاسا لذاته، وما ينتظره من اعتراف اجتماعي وجزاء. وهناك الجانب المعرفي الذهني cognitif المرتبط بالمعارف والاستراتيجيات التي ستوظف أو التي سيتم بناؤها واكتسابها أثناء القيام بالمهمة.
§ خاصية الواقـعية Authenticité: في مقابل الطابع الأكاديمي النظري لبيداغوجية الأهداف، تميل مقاربة الكفايات إلى حل مشكلات ذات دلالة عملية وترتبط بالحياة اليومية الواقعية.
§ خاصيـة التحـويل Transfert: مقابل الطابع التخصصي لبيداغـوجية الأهداف (أي معارف ومهارات مرتبطة بوضعيات خاصة ومواد محددة)، تُنمي بيداغوجية الكفايات خاصية التحـويل،أي القدرة على معالجة صنف واسع من الوضعيات تتداخل فيها عدة مواد، بشكل يشابه الواقع المعيش المتميز بطابعه المركب، وبالتالي يسهل على التلميذ تحويل ما تعلمه وتدرب عليه في المدرسة، إلى التطبيق الفعلي والعملي في الحياة اليومية.
§ خاصية التعقيـد Complexité: في سُلَّم تدرجٍ تصاعدي لمستوى التعقيد تأتي الكفايات في قمة الهـرم مقابل أهداف التعلم ذات مستوى تعـقيد أقل والتي يتجه إليها اهتمام التقويم عامة.
5-ما هي صعوبات تطبيق منهاج يعتمد بناء وتنمية الكفايات؟
في بحث تربوي ميداني قام به فريق من الباحثين البلجيكيينJ.Donnay et autres: les 12 travaux de l'enseignant) faces aux compétences..;Le point de la recherche en éducation n°15 ;mars2000) على عينة تتكون من105 من المدرسين على إثر تطبيق منهاج الكفايات، وكان الهدف هو تحديد الصعوبات ورصد التحديات التي تواجه هذه التجربة ، تم استنتاج الملاحظات التالية:
* يشتكي معظم المُستَجْوَبين من ضعف اهتمام التلاميذ بالمدرسة مقارنة مع اهتمامهم بالتلفزة والسنيما ووسائل الاتصال الأخرى التي أصبحت توفر ثقافة جاهزة ومغرية. كما أنهم لا يعملون سوى من أجل النقطة وتحت الضغط الاجتماعي والنفسي الذي يشكله التقويم النهائي وهاجس الحصول على الدبلوم.كما أن التلاميذ لا يتحمسون لبيداغوجية تركز على التعلم عوض التعليم بحيث تعودوا على التلقي السلبي وانتظار ما يُعِدُّه لهم المدرس.
هذه الصعوبات هي في واقع الأمر حجة إضافية لضرورة حصول تغيير كبير في المدرسة والبحث عن "المعنى" العميق للعمل التربوي ومغزى المعرفة المدرسية حتى تصبح أداة فعالة للتحكم في الواقع وتغييره.
*معظم المبحوثين يفضلون النموذج التربوي المبني على نقل المعارف، ويعتقدون أن مهامهم الأساسية تتمثل في إعداد المحتويات الدراسية وشرحها للتلاميذ والسهر على تقويم مدى حصول استيعابها. ومن تم تبدو أهمية فتح نقاش في صفوف المدرسين لإعادة النظر في مضمون مهنة المدرس وفق التصور الجديد.
* أغلبية المستجوبين يُرجِعون سبب نجاح أو فشل التلميذ في دراسته إلى عوامل ذاتية تخصه: الموهبة، درجة الاهتمام، المستوى الاجتماعي، والمدرس الذي يقتصر على هذه الأسباب ويستبعد التساؤل عن مدى نجاعة طريقته البيداغوجية، يقلص من هامش إمكانية تغيير أساليب العمل، لذا كان من الضروري إعادة النظر في هذه المـواقف لدى المدرسين لتجاوز هذا العائق.
* أبرز بعض المدرسين صعوبة العمل على بناء كفايات مركبة، باعتبار أن اكتسابها يكون بطيئا، وينطلق من وضعيات إشكالية و واقعية يصعب إعدادها بدقة، كما يصعب تقويمها. وأمام هذه العوائق غالبا ما يعود المدرس إلى المحتويات الدراسية التقليدية التي يتقنها ويسهل عليه تقويمها.لذا تظهر أهمية إقناع المدرس بأنه ليس من الضروري أن يتقن كل شيء، وأن يقبل التقليل من التركيز على المضامين في عملية التقويم.
*هناك صعوبة في تطوير العلاقات المهنية فيما بين المدرسين، علما بأن طبيعة الكفايات وخاصة الكفايات العرضانية تستلزم تنسيقا وتعاونا دائما بين مدرسي مختلف التخصصات والاشتغال على مشاريع مشتركة.
* يشكل النقص في تكوين المدرس عائقا يحول مواجهة التحديات التي يطرحها بناء الكفايات، وقد تبين أن سبب التحفظات ومقاومة التغير، راجع بالأساس إلى التوجس من المجهول وعدم الإلمام الصحيح بهذا التصور البيداغوجي الطموح.
* يسبب الطابع الإلزامي والتعسفي أحيانا في فرض تغييرات سريعة ومفاجئة دون تهيئ ونقاش واستشارة موسعة، حالة تذمر وتوجس من التجديد ولو كان نافعا.
* العوائق التنظيمية:ضرورة توفير الغلاف الزمني المناسب لهذا التوجه مما يفرض تغييرات في استعمالات الزمن والإيقاعات المدرسية.